علاقة الغناء بالتجديد في أوزان الشعر العربي

علاقة الغناء بالتجديد في أوزان الشعر العربي 

العروض العربي ينظر للحرف الساكن نظرةً واحدة ، سواء كان الساكن حرف مد أو حرفاً صحيحاً ساكناً ، فهو في التصوّر الموسيقي عروضياً : ثاني سبب خفيف أو وتد مفروق أو ثالث وتد مجموع ، له مكانُهُ المعروف في تفعيلات الشعر العربي العشر ، فلا تمايز بين حرف المد الساكن وبين الصحيح الساكن عروضياً .

أما الساكن في الغناء إن كان حرف مد ، فله حكم يختلف على مستوى الأداء الصوتي ؛ لأن طبقات الصوت لا تظهر بشكل واضح مع الأصوات الصحيحة ، وانما تظهر عُرَبُ الصوت وطبقاته في النغمات العالية ولا سيما في حروف المد ؛ للإطالة المتعمدة في مد الصوت مما يزيد في الفاصل الموجود ما بين الاوتاد ؛ مما يمكِّن للقول بأنَّ اعتبارات الاعتماد في الغناء تتغير؛ لأن الفواصل الزمنية التي تفصل ما بين الاوتاد لا تكون فواصل عروضية وإنما فواصل غنائية ، إن صحت التسمية ، تعتمد على قانون المد، وهو ما يؤكد تأمل الإطالات الصوتية عند المنشدين أو المُغنين، إذ يلاحظ أن طبقات الصوت و جمالياته إنما تظهر في حروف المد، فطبيعة الإنشاد والغناء وقانونهما يكسران مبدأ المساواة بين نوعي الساكن ( حرفي المد والصحيح ) في العروض العربي مما يغير في مبدأ الفاصل الزمني بين الاوتاد الذي تمثله الأسباب.

فالمغني المجوّد الذي له أُذن موسيقية عالية باستطاعته عند الغناء تحويل شطر من البحر المتقارب عن طريق حروف المد إلى بحر الطويل على المستوى الزمني، بمد حرف المد إذا كان موجودا في فعولن الثانية والرابعة لتتحول هذه الاطالة في الصوت إلى سبب خفيف فتصبح الموسيقى فعولن مفاعيلن، وهو ما لا يفعله هذا المنشد في فعولن الثالثة حتى ان توفر فيها حرف مد فإنه لا يمده؛ لأن مدَّه سيحطم الأساس الموسيقي الذي أسَّس له في مد آخر فعولن الثانية، يحكم ذلك زمن الإنشاد لا طريقة ترتيب السواكن في البيت الشعري ، وهو ما تعتمده كتابة النغمة الموسيقية ( التي تكتب على وفق من ميزان موسيقي ) تعتمد على ربط النغمة بالزمن الحقيقي لا بما يمثله من حروف متحركة وساكنة .

الأمر الذي يفسِّر ظهور المتدارك بكثرة في الشعر العباسي وبعض الأوزان التي قلَّ أو ندر استعمالها في الشعر العرب القديم، قبل ظهور الغناء ، فعند مد حرف المد في فاعلن الأولى والثالثة ستتحول زمنياً إلى مستفعلن؛ لذلك ظهر في غناء العصر العباسي، إذ إن المغني وجد فيي موسيقاه عذوبة كبيرة لتحوله إلى بحر البسيط ، فإن في إطالة المد في التفعيلة الأولى تحويل لها  إلى مستفعلن، فكأنما هو بسيط مع أنه متدارك، فالمغني يمد صوتياً في حروف مدٍّ بأزمنة معينة من غير معرفةٍ مباشرة من المغني لِمَ يُطَوِّلُ هنا ويقصِّر هناك، ولعل هذا التصور هو مقصودُ السيوطي متابعاً ابن فارس في ذلك ،عندما قال "إن أهل العروض مجمعون على أنه لا فرق بين صناعة وصناعة الإيقاع إلا أن صناعة الإيقاع تقسم الزمان بالنغم، وصناعة العروض تقسم الزمان بالحروف المسموعة" ([1]).

ا.د. عامر مهيدي صالح

________________________________________

([1]) المزهر في علوم اللغة 291 ، وينظر : الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها 266 .


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

طبعات العقد الفريد

لفظ اليتيم .... أ.د. عامر مهيدي صالح